حارسات التراث
ريما أبو رحمة
"يا هلا يا هلا، الضيف ضيف الله واحنا اهل الكرم"
هكذا استقبلتنا السيدة أمونة، المعروفة بين أهالي القرية بأم نسيم، وهي ترحب مبتسمة. أمونة أحمد أبو رجيلة، 69 عاما. مزارعة من قرية خزاعة في محافظة خانيونس - قطاع غزة. كان الجو غائما ومبشرا بهطول الأمطار، فقمنا ومجموعة من الشباب بمساعدتها بحراثة الأرض وزراعة بذور البطيخ قبل هطول المطر، لتستطيع قطفها عند حلول الصيف، أي بعد مرور 4 أشهر، فكما يقول المثل الفلسطيني "أحرث بأذار لو السيل كرار".
وأثناء ذلك، اخذت ام نسيم تحدثنا عن موسم حصاد البطيخ في خزاعة، حيث يعرف عن سكان هذه المنطقة والمناطق الجنوبية في قطاع غزة حبهم لأكلة فت العجر، والتي يطلق عليها أيضا "اللصيمة أو القرصة"، والعجر هو ثمرة البطيخ غير مكتملة النمو، التي يقوم المزارعين بقطفها قبل نضجها، حين تحمل الشتلة عدد ثمار أكثر من قدرتها على تحملها، حيث قالت أم نسيم موضحة:" العجر، هو البطيخ قبل ما يستوي، بتكونش مبذرة، بنخفف من اللبشة (الشتلة) تعت البطيخ عشان تتحمل البطيخة بس تكبر. اللبشة بتحمل بطيختين، إذا كويسة بتحمل 3، العجر (الثمار المقطوفة) بنفت فيه وبناكلو او بنعملو مخلل"، وعند سؤالها "كيف بتعرفي إذا قوية او لا؟"، اجابت "بتبين باللبشة، مش الفالح بجيب ولد فالح؟ "
كما وضحت أكثر عن طريقة عمل أكلة فت العجر "العجرة الي بنلاقيها حلوة بتلمع بنعرف انها مش مبذرة، بنحطها عالنار بنشويها، لما تستوي بنطلعها وبنقشرها، بنحط كشك وفلفل وثوم ولبن وخبز صاج وخيار، بنقلبهم سوا وبنضيف زيت زتون كثير وبناكل، وأحيانا بنرمي عجين الخبز على الفحم وأحيانا بالفرن".
أثناء حديثنا مع أم نسيم، قامت بقطف بضع حبات الباذنجان، الجرجير، البندورة، وعدد من المحاصيل الاخرى، لتعد لنا وجبة الإفطار على النار التي كانت قد أشعلتها منذ وصولها الأرض صباحا لتتدفأ بها وتعد ابريق الشاي.
عند جلوسنا على طاولة الإفطار، كانت قد حضرت متبل الباذنجان، قلاية البندورة، زعتر، زيت، وبعض المكونات الاخرى التي كانت تحتفظ بها ب "كوخها" البسيط داخل المزرعة.
وعند سؤالها عن أكثر أكلة تحبها وتتقن عملها، من منتجات الأرض التي تزرعها، أجابت: "اكتر اكلة بحبها الخلطة" تعلمتها من أمي، بتحط فيها شو متلاقي بالأرض، شوي من كل محصول، كوسا، عجر، لوديا، بامية، قرع، بندورة، نقطعهم ونخلطهم سوا، بعدها بنقلي بصل وبنقليهم بشوية زيت وبحطو عالنار مع دقة توم وفلفل وجرادة"
ويعرف ان المزارع الفلسطيني يعد هذه الأكلة وقت الحصاد، حيث يأخذ القليل من كل نوع من المحاصيل التي نبتت بأرضه، ليطهيهم سويا فرحا بما منت عليه به هذه الأرض.

بعد الحراثة كان يأكل المزارع عادة من ارضه، سواء المنتوجات الموسمية او المجففة، مثل الملوخية المجففة (البسارة) او البامية او البندورة المجففة او الكشك ومسبك اللحمة (حيث يتم طهي اللحمة مع الدهن على نار هادئة حتى تجف ثم تخزن في علبة، وهي أحد طرق التخزين التراثية للحوم) وهناك ايضا فتة الحراتين (فتيتة بندورة) وه "آكلة زي الدرعة بالزيط (قلاية البندورة)، بنجيب الخبز البايت البلدي والبندورة بنقطعهم، والفلفل والثوم والبقدونس بندقهم وبنحطها عالنار". قالت ام نسيم انها تزرع بهذه الأرض منذ أن كان عمرها 12 عاما، هي واخوتها الاثني عشر. حيث ورثوا هذه المهنة هي عن الأب والأم، لكن عندما كبر اخوتها، انشغل كل منهم بأعمال اخرى منوعة، بمخاطر أقل ومكسب أكثر، وبقيت ام نسيم بالأرض.
قالت ام نسيم، مستذكرة لطفولتها بهذه الأرض: "كنا نلبس الفساتين والتواب تعت الزراعة، بتذكر تواب امي كانت ما احلاها، خفيفة وألوان فاتحة، خاصة الازق والأحمر، بتطريز خفيف". وذكرت ام نسيم انها وباقي افراد عائلتها كانوا يخرجون الى الأرض مع اذان الفجر، لحراثتها "كنا نطلع زمان مع الادان نروح نحرث، عالحمير والجمال والبقر نصلي الفجر ونطلع، نضل شهور نحرت بالأرض لانو الارض كبيرة"،وما زالت ام نسيم متحفظة بهذه العادات لوقتنا هذا، وعلمتها أيضا لأبنائها الستة. " انا بصلي الصبح وناجي بولع النار وبشوف الشمس وهيا بتشرق". حدثتنا ام نسيم أيضا عن الأغاني الفلسطينية التراثية اثناء الحصاد (للتعبير عن الفرحة)، حيث كان يردد الفلاح: "يا حصاد عويد عويد، نقي القمح من السويد" وعند تعب العاملين بالمزرعة اثناء الحراثة، وطلبهم للراحة بطريقة طريفة، كانوا يرددون "يا معلم حلنا، والله ما بحلكم، غير انيم ضلكم" (يعني يا معلم روحنا الشمس حميت علينا، يرد والله ما بروحكم غير لما ينام الظل أي بعد الظهريات)
واثناء زرع البقوليات شتاءٌ، كان يردد: "حط العدسة في الجرة واستنا رحمة الله"

وذكرت ام نسيم انه في أوقات الجفاف، عند تأخر الأمطار وبالتالي تضرر محاصيل الفلاح الفلسطيني، كانت هي ونساء القرية يسرن بالشارع مرددات "مال الديك بيصيح بدو مطرة مع ريح" فقالت: " لما يكون فش مطر كنا نروح انا والنساء نمشي بالشارع نغني شوي ونناشد رينا بالمطر شوي تانية"، وعند حديث ام نسيم عن تعليمها، ذكرت انها أكملت دراستها الثانوية، لكن لم تستطع الالتحاق بالجامعة، رغم حلمها بأن تصبح ممرضة، لإسعاف ومداواة الناس، لكن ظروفها وعائلتها المادية والمعيشية السيئة آلت بأن تحرم أم نسيم من هذا الحلم. ولا يعد حلم كهذا غربيبا مقارنة بصعوبات الحياة والمخاطر التي واجهتها أم نسيم، كونها مزارعة فلسطينية في مدينة محاصرة، حيث تتعرض ام نسيم، هي وكافة المزارعين الفلسطينيين، للعديد من التعديات والانتهاكات المستمرة من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
ومن طرفها قامت ام نسيم بتوضيح معاناتها، التي امتدت لسنوات طويلة. في ظل حصار الاحتلال الاسرائيلي لقطاع غزة قائلة: "عملت دفيئات خضرة وبندورة، بعد ال 2000 بدأ الاحتلال يجرف اراضيا والدفيئات والمزارع، لانو كلهم انوا عالحدود، كان عندي مزرعة جاج وأرانب وحمام وطيور بلدي وغنم وحيوانات، كان عندي حمارة اشتغل واروح واي عليها، كلو راح بالاجتياحات." وتم تجريف أراضي الزيتون التي تملكها ام نسيم أيضا، وعند سؤالها عن عدد مرات تجريف أراضيها اجابت انها لا تتذكرا "هما بجرفوا ونا بزرعها ثاني. هاذي الأرض كانت زيتون جرفوها وزرعتها، هاديك برضو كانت زيتون، لسا ما زرعتها انشالله رينا بكرمني قريب وبزرعها."
تعاني أم نسيم ايضا ان ارضها الآن مكشوفة (غير مسورة) حيث لم تتمكن من تسويرها بعد تجريفها الأخير من قبل الاحتلال، مما أدى لمعاناتها من اتلاف الكلاب الضالة لمحاصيل ارضها. وعند سؤالها عن سبب بقائها في هذه الأرض حتى هذا الوقت، على الرغم من صعوبة أوضاع المزارعين بقطاع غزة المحاصر، خاصة وان أراضي ام نسيم واقعة على الحدود الشرقية لقطاع غزة، محاذية للخط الأخضر عام 1948، اجابت أم نسيم، وكان من الواضح كم أزعجها هذا السؤال "أنا بسيبش ارضي بطلعش، هاي الارض شريان القلب اللي بنبض، ما بتتثمنش (لا تقدر بثمن)، والله بروحي بفداها، وكل اكلي ومعيشتنا منها" وأكملت مرددة للمثل الشعبي:
"الي ببيع الارض بغنى يوم وبفقر العمر
والي بشتريها بفقر يوم وبغنى العمر"
بهذا اليوم، استقبلتنا ام نسيم مرحبة، معطاءة وكريمة. كما يعرف عنها وعن أهالي القرية حبهم للضيف واكرامهم له، وتحلم ام نسيم هي وابناءها بتحويل هذه الأرض البسيطة لبيت ضيافة، ليستطيعوا استقبال الضيوف من أي مكان، واكرامهم بكل حب.

محتوى المدونة من مسؤولية جمعية الروزنا وملتقى شباب بلا حدود - غزة ولا يعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد الاوروبي