رائد سعادة

يعتبر الحفاظ على التراث مسألة هوية، ووعي ثقافي وطني من جهة أخرى. تلقي هذه المقالة الضوء على تراث المزارات والمقدسات الموجودة تقريبًا في جميع أنحاء فلسطين، وتقدم أفكارًا من أجل الحفاظ عليها للأجيال القادمة. توفر فلسطين ذات الطبيعة الجبلية حدائق وبساتين وكروم عنب ومناظر طبيعية خلابة للمشاهدين والمارين على مساراتها النائية، والذين ربما يبحثون عن ظل شجرة أو عذوبة ماء نبع قريب. وغالبًا ما توجد في هذه الأماكن وبين الأشجار الظليلة، آثار للأنبياء والولاة والشيوخ (السلطات الدينية). وقد نجت هذه المواقع من الدمار والمصير السيئ الذي كان من نصيب العديد من غابات فلسطين، المحمية بالتقاليد والإيمان المحلي بقداستها. وبحسب توفيق كنعان ، وهو كاتب فلسطيني عاش في بداية القرن العشرين وبحث في تراث المقدسات في فلسطين، فإن هذه المواقع قد تكون مكان دفنِ نبيٍّ معروف، أو ضريحًا، أو شجرة، أو شجيرة، أو كهفًا، أو نبعًا، أو بئرًا، أو صخرة، أو حجرًا اعتبره السكان المحليين مباركًا.


مقام المجدوب في قرية دير غسانة.

لكل قرية في فلسطين تقريبًا أولياؤها، حيث يمكن العثور على الكثير من المواقع في قمم الجبال، أو في القرى، التي يُبجلُّها الأهالي. ويقع بعضها بعيدًا من المناطق المأهولة، ولكن ضمن أراضي القرى المعنية. ويتم تبجيل هؤلاء الأولياء من قبل سكان قريتهم،و الكثيرين من خارجها. وتكون بعض الأضرحة الموجودة في القرى، والتي تقع على مقربة من المناطق السكنية، بمثابة مساجد. ولذا، فهي في حالة جيدة، حيث تخضع لصيانة ورعاية مستمرة.


مقام النبي صالح في قرية النبي صالح.

مقام الخواص في قرية دير غسانة.

على الرغم من وجود بعض الأضرحة في الوديان، غير أن معظمها يقع على قمم التلال أو في الفضاءات المرتفعة ، وتكون مطلة على المناظر الطبيعية للمناطق المجاورة. ومن المدهش حقًا أنه يمكن العثور على كثير من الأضرحة في جبال غير مأهولة. وهذا ينسجم تمامًا مع المفهوم القديم لقدسية الأماكن المرتفعة التي ربما انتقلت إلى فلسطين الحالية من خلال التقدم التاريخي. وربما لا يمكن رؤية هذه الأضرحة من مسافة بعيدة، حيث تكون أحيانًا على سفوح الجبال، وليس في قممها. وغالبًا ما توجد الأضرحة الموجودة في الوديان، عند تقاطع وديان أو في مكان اتساع الوادي.
وفقًا للعادات والتقاليد ، يجتمع الناس ، وخاصة النساء ، في كل عيد في هذه الأماكن المباركة للدعاء والصلاة.
يوجد العديد من أضرحة الأولياء في المقابر. وغالبًا ما تكون هذه الأضرحة أقدم من المقابر نفسها؛ إذ كان الناس يدفنون قادتهم بالقرب من الأضرحة لحماية جثمانيهم من الأعداء. وفي بعض الأحيان كان يُدفن الأولياء الأحدث في مقابر موجودة، ويُبجلُّون بعد وفاتهم.
في بعض الأحيان، كان يتم بناء بعض الأضرحة فوق الآثار القديمة التي تشمل الكهوف والمواقع الرومانية أو الكنائس البيزنطية أو الصليبية. وكغيرها من الأضرحة ، تعرضت هذه الأضرحة للنهب والسلب. وعلى الرغم من إعادة تأهيل بعض المزارات أو المقامات، فإنها تعرضت للنهب والسلب مرارًا وتكرارًا من قبل أشخاص يبحثون عن الكنوز والتحف الثمينة.
لقد بُذلت محاولات عديدة لحماية هذه الأضرحة، لأنها تجسد سنوات كثيرة من التقاليد والتاريخ الفلسطيني، وتشهد على الوجود الفلسطيني في البلاد، على الرغم من أنها قد لا تلقى التبجيل والاحترام والتقدير كما في الماضي، ولا سيما من قبل الأجيال الشابة. ولكن حماية هذه الأضرحة والاستثمار في إعادة تأهيلها هو استثمار في الهوية الفلسطينية، ودليل قوي على ارتباط الفلسطينيين الراسخ بالأرض ومعتقداتهم وتراثهم.

من الأساليب اللافتة لحماية هذه الأضرحة، هو تحويلها إلى حدائق عامة توفر مساحة جميلة للسكان المحليين والزوار على حدٍ سواء. كما يمكن تجديد الأضرحة وتسييجها وحمايتها من التخريب وسوء الاستخدام. ومن الممكن تحويل المناطق من حولها، والتي تنتمي في معظمها إلى الوقف الإسلامي، إلى حدائق عامة للتنزه أو ملاعب للأطفال أو كافيتريا صغيرة تقدم خدمات أخرى مثل دورات المياه ومناطق للتخزين. ومن الواجب أن تحتفظ هذه الأضرحة بمستوى معين من الاحترام والتقدير والتبجيل؛ ليس بالضرورة بسبب قيمتها الدينية، إن وجدت ، ولكن بسبب قيمتها التراثية وارتباطها بهوية القرية التي تقع فيها وتقاليدها. وستوفر الحدائق العامة للناس مساحات آمنة وجميلة لقضاء بعض الوقت، وفي الوقت نفسه تسلط الضوء على تاريخ المنطقة والمواسم الثقافية والدينية.


مقام الدوير في قرية مخماس..

من الأمثلة على المحاولات الناجحة لترميم الأضرحة في فلسطين مرقد الشيخ القطرواني في عطارة بالقرب من بيرزيت، وضريح الشيخ سبع في برقين قرب جنين، وضريح الدوير في مخماس شمال القدس. وقد ساهمت السلطات المحلية والسكان في جهود إعادة تأهيل هذه الأضرحة والمراقد، وتم الاستثمار في الحدائق وملاعب الأطفال والاستراحات.
في حالات أخرى، كما هي حال ضريح النبي غيث الجميل، استمر اللصوص في تخريب محاولات التجديد. وهذا يؤكد الحاجة إلى الاستثمار في الوعي الثقافي الوطني. ويحتاج الناس إلى تثقيفهم حول معنى الانتماء إلى قرية معينة، وكيف يكونون جزءً من هويتها، في الماضي والمستقبل، وكيف يكونون مساهمين نشطين في ترسيخ الهوية الوطنية لفلسطين.
في أي حال، من المرجح أن ينجح تحويل مواقع الأضرحة والمقدسات إلى حدائق عامة إذا تبنت الحكومة سياسة يمكن استخدامها من قبل الوزارات ذات العلاقة، ومنظمات المجتمع المدني للتراث الثقافي ، والمجالس المحلية والبلديات من أجل تعزيز مبادرات الحماية.

مقام النبي غيث في قرية دير عمار قبل التخريب.

مقام النبي غيث في قرية دير عمار بعد التخريب.