حارسات التراث
فانتينا شولي
" أحلى إشي كان بالتعزيب، الحجة الي كانت تيجي تبيعنا زواكي، كانت تيجي حاملة سلة زي الجونة، فيها حلقوم وحلاوة، وبسكوت" تروي السبعينية صبحة الريماوي عن جزئها المفضل في أشهر "العزبة" التي كانت تقضيها مع أسرتها الممتدة في أرضهم الزراعية الجبلية في قرية بيت ريما شمال غرب رام الله، فبمجرد أن يبدأ موسم التين والعنب في الصيف، تخرج العائلات إلى حقولها، مصطحبين معهم كل ما سيحتاجونه من أدوات الطبخ والقهوة والطعام وغيره.
ولكن، أشهر التعزيب هذه ليست لسكان القرية فقط، بل لمختلف الكائنات، فالعائلات تصطحب معها الدجاج والحمام والخراف، وتسكنها معها في الحقل، لتعتني بها، وتكون تحت إشرافها دائماً، فبحسب صبحة كانت الناس تغيب عن منازلها أشهرا عديدة، وخلال هذه الأشهر الصيفية كانت الريماويتقطف هي وعائلتها التين، وتقوم والدتها بصنع القطين، إذ كانت تقطع الحبات وتصفها بجانب بعضها على الأرض، وتنتظرها لتصبح صلبة ليأكل منها الجميع.
وفي بعض الأحيان، كانت تتساقط زخات من المطر يسمونها "مطر المساطيح"، وعنها تستذكر صبحة حين كانت طفلة أنها كانت نائمة بجانب جدتها، حين بدأت الأمطار تتساقط فسارعت جدتها لتغطية حبات التين الموضوعة على الأرض لعمل القطين، ولأن الأمطار تتساقط على التين المصفوف (المسطّح)، أسماها الفلاحون "مطرة المساطيح"، وتشير صبحة إلى أن الأرض كانت تعطي الفلاحين مقابل الجهد المبذول تجاهها، فكميات التين المنتجة كانت تحول لقطين وتخزن في الخوابي (مكان تخزين الحبوب)، كما القمح.
الكبار يعملون والصغار يلعبون
في الماضي، كانت حياة الفلاحين تنتقل بشكل شبه كامل إلى الحقول الخاصة بهم، إذ يمر عليهم مواسم العنب والتين والزيتون، "في سنة 1956، لما كنا نروح عالجبل، كان عمري حوالي 6 أو 7 سنين، وكنا نلعب كثير ألعاب، منهن السيجة" تشرح صبحة عن هذه اللعبة التي تشبه لعبة الداما حاليا، وتتكون من حبات زيتون باللونين الأسود والأخضر، وفي أوقات الفراغ يجلس الجميع ويتشاركون القصص والأحاديث، ويتناولون الطعام ويشربون القهوة والشاي المعد على الحطب، ويصلون، ويسهرون تحت الأشجار في الليل، قبل الخلود للنوم في بطانياتهم التي حملوها معهم، فالأراضي كانت قريبة من بعضها، مضيفة بسعادة أنها كانت تحب الاستيقاظ وندى الصباح على وجهها.
تصف صبحة طفولتها وشبابها بأنها من أجمل الأيام على الإطلاق، فالحياة كانت بسيطة رغم الفقر وقلة الموارد، قائلة: " العزبة أحلى من رحلة تركيا اليوم"، ثم تصمت لثوانٍ معدودة وتتابع حديثها عن وادي شبتين القريب من القرية الذي كانت تذهب إليه مع عائلتها في الصيف، فهناك تجلس النساء على جانب نبع الماء يغسلن الملابس، ويطبخن، ويساعدن في الزراعة وتجهيز التين والعنب لعمل القطين والزبيب والمربى والعصير، في حين يعتني الرجال بالزيتون وغيره من النباتات، ويتولون مهمة إحضار الأشياء الضرورية، فوالد صبحة كان يتوجه أسبوعيا للقرية لشراء احتياجات الأسرة عن طريق المقايضة، فمثلا يعطي البائع بيض دجاج ليأخذ قهوة، وهكذا.
يا حبها بلح بلح
أما في موسم الزيتون فكانت الأدوار تقسم بين جميع أفراد الأسرة من النساء والرجال، وفي ذلك الوقت لم يكن هناك مفارش توضع على الأرض، بل كانت النساء تجمع الحب المتساقط على الأرض وتقطفه عن الأطراف، في حين كان الرجال يتولون مسؤولية الحبات العالية، وحين انتهاء أي أسرة من قطف زيتونها تنتقل مباشرة لمساعدة جيرانها، إذ لم يكن مستحبا أو مقبولا أن ينهي أحد ما قطف زيتونه في حين أن عائلة أخرى ما تزال تقطف أشجارها في ذات الجهة من الجبل.
وأثناء الحديث بدأت الريماوي ترنم بعض الأغنيات التي كانوا يغنونها قديماً في موسم الزيتون
زيتونة يا حبها بلح بلح
كل خمسة ستة بملين (يعبئن) قدح (كوب)
الجاروعة
أنهت السبعينية صبحة حديثها عن رحلة "التعزيب" بالاحتفال الذي كان يقوم به المزارعون مع انتهاء موسم الزيتون، المسمى الجاروعة، وخلال سردها للتفاصيل فتحت يديها وقالت: "بقينا نفتح إيدينا وإحنا صغار، ويحطولنا فيها حفنة زيتون"، ويأكلون الحلويات احتفالا بانتهاء الموسم، ومن ثم تعود الحياة إلى مجاريها، الرجال يعملون في الأرض والنساء مسؤولات عن المنازل وتنظيفها، وتجهيز الطابون بروث الحيوانات من أجل إعداد الخبز والطعام فيه.
التعليم العالي للذكور فقط
رغم أن حياة الفلاحين كانت تتمركز حول الزراعة، إلا أن التعليم كان له حصة أيضاً، ولكن ليس عند الجميع، فالحكواتية التي أخبرتنا بتفاصيل الحياة في بيت ريما قديما لم تذهب للمدرسة، لأنها رفضت ذلك، وكانت تهرب دائماً، وتفضل البقاء في البيت، وعن هذا تقول: "بقينا جاهلين وقتها، وكنت أهرب وما أرضى أروح، مع إنهم جابولي شنطة جديدة، بس شنطاتنا كانوا كياس قماش".
وبشكل عام لم يكن تعليم البنات في القرية سهلا، فالمدارس كما بقية المناطق القروية كانت للمرحلة الابتدائية، وبعدها على الطلبة التوجه إلى أقرب مدينة، وبالنسبة لأهالي بيت ريما، فالشبان كان بإمكانهم السكن في رام الله إما بالاستئجار أو عند الأقارب لمتابعة دراستهم، والعودة في نهاية كل أسبوع، لكن الأمر لم يكن مقبولاً بشكل عام للفتيات، فقلة هن اللواتي أكملن تعليمهن الإعدادي والثانوي، ليعملن بعدها في الغالب كممرضات أو معلمات، إما بسبب الزواج أو لظروف التنقل، إذ أخبرتنا صبحة أن القرية كان فيها حافلتان، الأولى تخرج عند الساعة السادسة صباحاً وتعود عند الثانية عشرة ظهراً، والثانية تغادر الساعة السابعة صباحاً وتعود عند الثانية بعد الظهر، ومن يتخلف عن هذه المواعيد عليه إيجاد حل آخر للتنقل.

محتوى المدونة من مسؤولية جمعية الروزنا ولا يعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد الاوروبي