كتابة مشتركة بين جمعية الروزنا والمدونة فداء أبو حمدية
في كل مرة كنت أتحدث فيها عن الطعام الفلسطيني أرى فلسطين، حتى أصبح أحد أهدافي أن أروي قصتنا من خلال مأكولاتنا، وأن أشارك أصدقائي - اللذين كانوا يؤنسون أيامي في الغربة - عاداتي وأفراحي وأكلي الذي يحمل أعياداً بين مكوناته، فقد كان العيد يعلن عن قدومه بامتلاء الأسواق بما لذ وطاب من الطعام الخاص به، الطعام ذاته الذي كلما تناولته أو أعدتته يعود بي بالزمن وبالجغرافيا إلى حيث كنت. تعلمت كم هو مهم الحديث عن الطعام، وأنه جزء من ثقافة الشعوب، وكم نحن الفلسطينيون بأمس الحاجة لأن نتحدث عنه خصوصا أن الاحتلال الذي لا يكتفي بسلب الأرض وحياة الانسان والماء والهواء، لا وبل يعمل على استحواذ الثقافة والتراث الفلسطيني.
بداية التدوين كانت في إيطاليا، جاءت الفكرة وأدركت أهميتها بعد ملاحظتي لطريقة الإيطاليين بالتعامل مع طعامهم بفخر وحميمية فهم يتعاملون مع بعض منتجاتهم وكأنها حبيبه أو طفل/ة… جميلٌ هذا الشعور. لكن السبب الأقوى للتدوين كان بسبب مواطنون ينسبون هويتهم لدولة الإحتلال وكانوا يرَوجون للطعام الفلسطيني وكأنه لهم، وكأن الزعتر والمجدرة والمسخن تحمل ذكريات أجدادهم أويملكون الأرض التي نتجت منها تلك الوصفات. الطعام مرآة الأرض والشعوب، تطور وتنقل معهم، ومدى تنوع الأطباق الفلسطينية هو رمز إلى تنوع ما تنتجه الأرض ويحوله الإنسان، كما تمثل هذه الأطباق المواسم والحياة الإجتماعية والإقتصادية للمجتمع، وفي فلسطين نضيف اليها السياسية.

موروث غذائي منتهك
أصبح الحفاظ على التراث والثقافة الفلسطينية وتوثيقهما ضرورة ملحة في ظل معركة الاحتلال الثقافية ضد كل ما هو فلسطيني وعربي، بدءًا من محاولاته المتكررة لقلع الإنسان الفلسطيني من أرضه وقطع صلتنا بها، وصولاً إلى منعنا من قطف خيرات الأرض التي اعتادنا عليها ونعلم كيف نعاملها بحنان كالزعتر والميرمية، وإصدار قوانين واهية تمنعنا كأبناء الأرض الأصليين من ممارسة طقوسنا وثقافتنا بقطف بعض الأعشاب البرية مثل العكوب والمريمية تحت مسوغات حماية الغطاء النباتي من الانقراض، وذلك بهدف محو الذاكرة المحلية المرتبطة بالأرض والتي نحملها كفلسطينيين معنا سواء في البلاد أو الشتات ودول اللجوء..
وبهذه القوانين، لا تقتصر محاولات الاحتلال على محو العلاقة بين الفلسطيني وأرضه بل تتعداها لمحاربته في رزقه من خلال إعادة زراعة بعض النباتات والأعشاب البرية تجارياً وبيعها لنا في السوق الفلسطيني. كما أن اختفاء هذه الممارسات الثقافية والتقليدية تساهم في تقلص عادات اجتماعية جميلة في فلسطين مثل عادات نسوة مدينة نابلس في موسم العكوب الشوكي حيث تجتمع النسوة للتعكيب (ازاله شوك العكوب) وهذه المناسبة لها تأثير ايجابي في تقوية النسيج المجتمعي.
مهمة الفلسطيني هي البحث والتوثيق للأطباق والعادات والتقاليد وكل ما يتعلق بالتراث وإحيائه وتوريثه للأجيال. وهذا ما تفعله بعض المؤسسات والأفراد التي تتخذ من الحفاظ على التراث وجزء منه الطعام العمل الرئيسي لها من خلال لقاءات مع رجال ونساء من فلسطين عاشوا مرحلة اقتصادية واجتماعية مختلفة عن المرحلة الحالية، يحفظون العادات والأطباق والذكريات وينقلونها لهذه المرحلة بكل حب وكرم شديد، يفتحون أبواب بيوتهم ومطابخهم وقلوبهم لطهي الطعام والتحدث عن ارتباطه بالمناسبات والقصص المتعلقة به.



إكبب عابود
قبل أيام، تلقيت دعوة لمشاركة تجربتي حول الموروث الغذائي والحكاية التي يحملها كل طبق شعبي في تركيباته ومكوناته. كانت المشاركة في بلدة عابود الريفية التي تقع شمال غرب مدينة رام الله وتتمتع بتنوع اجتماعي وثقافي كبير مقارنة بعدد سكانها الذي لا يتجاوز ال 3000 موزعين بين عائلات مسيحية ومسلمة تمتلك مساحات واسعة من الأراضي المفلوحة والمغروسة بأشجار الزيتون.
استقبلتنا النسوة بمشهد لمحاكاة إعداد طبخة تقليدية تشتهر بها المنطقة في العيد الكبير (عيد الفصح المجيد) فكانت يد العمة المرتدية ثوب العمل المطرز بالخيوط الحمراء والذهبية، تدور بالجاروشة على القمح لتنتج البرغل والجريشة والطحين، وهي ترود أغاني الفراق والسفر على صوت الجاروشة الخشن والحزين، وتعاونها صديقتها بنخل ما تم طحنه وفرزه لإعداد أكلة "الإكبب" البسيطة بمقاديرها والدافئة بطعمها.
والإكبب تعكس في طبقاتها ما تنتجه الأرض من قمح وبصل، وما تيسر من لحوم ذبيحة العيد بعد 40 يوما من الصيام عن منتجات اللحوم والألبان، وأما هندستها فهي ترجمة لمبانيها وكنائسها ذات القباب. هذه القبب التي تحولت إلى "إكبب" باللهجة المحلية، حملت داخلها اللحمة المفرومة والبصل مغلفة بالقمح المنقوع والملون بالكركم، عجنته السيدات حتى أصبح متماسكا وحشته باللحم النيء مع البصل والمطيب بالبهارات، وشكلته بأيديهن ليأخذ شكل القبة.
تابعت سيدات عابود التحضيرات بغلي الماء وتطييبه ومن ثم إسقاط القبب بداخله بحنية وتحريكها وانتظارها حتى تنضج. وبالمغرفة رسمن إشارة الصليب أثناء التحريك لتحل البركة والنعمة على الطبق والعائلة. كانت مخيلتي تعج باللوحات التي كونتها وأنا أتخيل عن العائلة الممتدة والتي تسكن حوش عنفوص أو عازر أو خوري، وهي تعيش تلك اللحظات؛ التحضير والانتظار ومن ثم الاجتماع معا حول الطبق الذي كان يحضر بنظام العونة بين نسوة الحوش.
ولكن الإكبب، وكيفما عرفت بعد استماعي لنقاش طريف دار بين سيدات عابود، كان يطبخ أيضاً في منازل العائلات المسلمة في عيد الأضحى مع فارق تشويح اللحم المفروم والبصل قبل حشوه.
الطعام جزء من ثقافتنا وحياتنا وتراثنا، يستطيع المحتل أن يسرق الوصفة وأن يلفق قصة إن استطاع، ولكنه لن يستطيع أن يبعث الحب في نفوس من يأكلون طعامهم المسروق ويستمعون لقصصهم المزورة، لا أحاسيس ولا حياة ولا حقيقة في أطباقهم المسروقة.