رائد سعادة \رئيس مجلس إدارة جمعية الروزنا

منذ أن كنت طفلاً ومما لا يمكن لي أن أنساه أبداً ويصاحب لحظات صباحي القليلة في معظم الأيام هي رائحة خبز الطابون المحشو بالسبانخ مُشبعاً ومُغدِقاً الهواء برائحته وكأنه ممزوج بخيوط ضوء الفجر الأولى التي تترآى لي خارج منزل أجدادي. لقد كُنت أشاهد يدا جدتي وهي تمتزج وتندمج في سواد وعتمة فرن الطابون لأنها كانت تقلب الخبز على وجهه الآخر ومن ثم تعيده إلى وجهه الأصلي مُلقيةَ إياه على فرش الحجارة الموجود أسفل الفرن. تقوم جدتي بعمل هذا كل صبيحة يوم على نحو مقدّس لأنه جزء من احتفالية تحضير وإعداد الفطور.


أظّن بأنني قد طوّرت ارتباطاً بريف فلسطين مستوحى من شغف جدتي للحقول، ولأشجار التين، المشمش والميرمية أو النعناع التي أخذتني لالتقاطها من أجل تحضير الشاي. كنا ننتظر استيقاظ بقية أفراد الأسرة من أجل أن نقوم بتحضير الفطور تحت عريشة الدوالي. جدتي تعمل كل شيء بنفسها؛ المربى، كرات اللبنة المنغمسة في الزيت، الزيتون، المخللات والزيت والزعتر. لقد علّمني حنانها وإخلاصها بأن أعتني بالأشياء الصغيرة من حولي؛ صوت العصافير، حاكورة الخضروات الصغيرة، الصيصان التي تدور وتركض حول القن وممرات ومصاطب الزيتون المؤدية إلى أسفل الوادي عبر مجموعة من المسارات الضيقة المتشابكة حيثُ الظل الوفير خلال أيام الصيف الحارة. لقد كان كرم جدتي تنويراً ودرساً منقوشاً بالحجر يروي الضيافة والحفاوة الريفية.


ما الذي يقدمه ريف فلسطين لما يتجاوز وما هو أبعد من هذه الدماثة والألفة والود؟ إن أولى الأفكار التي تتبادر إلى الذهن هي المشاهد والمناظر الطبيعية المتنوعة وسلسة جبال الزيتون المُطلة والقرية الفلسطينية الهادئة المغمورة عبر التاريخ. إن دوري وانخراطي في مؤسسات مثل جمعية الروزنا لتطوير السياحة الريفية والتي تعمل من بيرزيت، وفي شبكة نيبتو (شبكة المنظمات السياحية الفلسطينية التجريبية) وفي مسار فلسطين التراثي وغيرها من المؤسسات والتي كنت فيها ناشطاً بترويج السياحة الريفية في جميع أرجاء الضفة الغربية. يستند كل عملنا على فكرة منصة بسيطة تهدف إلى تحديد الموارد والقدرات الموجودة في المناطق الريفية والقادرة على أن تضيف قيمة لجاذبيتها وتُفيد مجتمعها المحلي. ومن نافلة القول، فإن الموارد في المناطق الريفية وفيرة وتضم عناصر معمارية، صناعات يدوية، بيئة، طبيعة، غذاء، ثقافة وتراث. لا يُشكل توحيد هذه العناصر معاً برامجاً جاذبة للزوار والضيوف فقط وإنما تُسهم أيضاً في جهود بناء هوية فلسطينية متميّزة. كنت أعتقد بأنه يمكن للأشخاص المرتبطين جداً بالأرض مثل أجدادي أن يحوِّلوا كل شيء تلمسه أيديهم إلى ذهب لأنهم كانوا قادرين على إيجاد وخلق أشياء كثيرة على ما يبدو من لا شيء. يمكن أن توفر الأراضي الواقعة في ريف فلسطين رفاهية لشعبنا. إنها سلّة غذائنا وتراثنا. قُرانا مغمورة تاريخياً وتروي لنا قصة شعب عريق تتجاوز جذوره الزمن والحضارة.

ولكن يبقى السؤال القائم: كيف نتقدم ونمضي للأمام متجاوزين هذه الإمكانات؟ إن جميع المؤسسات المنخرطة في السياحة القائمة على المجتمع والمدعومة بتعاون استراتيجي ضمن وزارة السياحة والآثار كانت تتقارب وتتلاقى نحو رؤيا شمولية تعكس شكل المنتج السياحي الريفي الفلسطيني. كما وتستند الرؤيا على شبكة من المسارات والدروب المواضيعية وكذلك عدداً من مراكز الثقاة المحلية، وجميعها مرتبطة معاً ومتطورة بما ينسجم ويتزامن مع بناء تآزر وموارد وقدرات مشتركة. إن أحد الركائز والدعائم الرئيسية هو مسار طويل يمر عبر الضفة الغربية من قرية رمانه في الشمال إلى الخليل والمناطق المجاورة لها في الجنوب، ويُدعى هذا المسار محلياً بمسار فلسطين التراثي وهو بالأساس مساراً ثقافياً يمر بشكل متعرج بين قُرى تُعز وتُرسخ ثقافة كرم الضيافة والصداقة واللطف والطيبة الفلسطينية. لقد صنّفت قناة ناشيونال جيوغرافيك مؤخراً هذا المسار على أنه المسار الأول الجديد في العالم.

إنه يُشكِّل عموداً فقرياً بعبوره للضفة الغربية بأكملها. ويتقاطع مسار فلسطين التراثي مع مسار المهد في مناطقة عديدة لأنه يربط بين بيت لحم والناصرة. كما ويرتبط كلا المسارين بشبكة المسارات الصوفية التي تقودها جمعية الروزنا. يعتمد نمط المسارات الصوفية على شبكة من قُرى مركزية محورية والتي تعمل كمراكز ينشأ منها عدد من المسارات. يوجد أيضاً مسارات ثقافية تحاول أن تروج الموارد المحلية، التاريخ والماضي، التراث، المناظر الطبيعية وفرصة أيضاً للقاء ونفع المجتمعات الريفية المحلية.يمكن أن تكون قرية أو تجمع أو قُرى أو حتى موقع تاريخي عبارة عن مركزا للثقافة المحلية. ويتطلب هيكله توحيداً لجميع الجهات المعنية التي تعمل ضمن مركزها من أجل تشكيل إدارة موحدة تنمو في وجهة ومنطقة جاذبة ونافعة يقصدها الزوار المحليين والدوليين. هنالك العديد من الأماكن في فلسطين والتي يمكن أن تُصبح مراكزاً للثقافة المحلية.


إن إنشاء مسارات وممرات ومراكز للثقافة المحلية ما هو إلا بداية لمسعى تنمية وتطوير السياحة الريفية. عندما يزور الناس مناطق ومعالم الجذب والمواقع الريفية ويختلطون بالمجتمعات المحلية ويشترون منتجاتهم، هنالك ينمو ويزداد الاهتمام بفهم وتقدير ما يمكن أن يتم تطويره وتحسينه. وعلى هذا الصعيد، تشمل وتضم التدخلات والمبادرات المستقبلية الترميم وإعادة التأهيل وإحداث تحوّل في المراكز التاريخية للقرية. كما وإنها تشمل وتضم ترميم وإعادة تأهيل المقامات والمواقع التاريخية وبحث تحويلها إلى حدائق مجتمعية. فلربما قد تأخذ تلك التدخلات بالاعتبار أن تُنشئ وتُحسن في القرية مراكز مجتمعية، مراكز ترجمة فورية، إنتاج مصنوعات يدوية حرفية، بناء قدرات وتدريب أدلاء مجتمعيين وكذلك مقر إقامة المدراء. ويجب أن تتم معالجة اللافتات والخدمات والبنية التحتية كذلك. لا يتعلق هذا النوع من الأنشطة فقط بجذب الزوار إلى المناطق الريفية بل الأهم من ذلك هو ما يتعلق بحماية التوازنات الاجتماعية-الاقتصادية، والثقافية، والبيئية.

إن أحد العناصر الرئيسية التي لا ينبغي تجاوزها أبداً هو دور المجتمعات الريفية المحلية في عملية التخطيط وتقرير مستقبلهم. وهذا يبدأ بزيارة تنسيقية مع البلدية والمراجع والوجهاء المحليين، تحديد خبراء محليين، التواصل مع المؤسسات المحلية والعمل بشراكة وتضافر جهود وتآزر على تطوير الريف الفلسطيني.لا يهم أبداً ما أحلم به أو أتمناه، فلم تُخفق زيارة واحدة حتى الآن إلى أي مجتمع ريفي أو قرية في إغراء مخيلتي وتحقيق سلامي الداخلي. إني أشعر بالامتنان الشديد جداً لأجدادي.

Leave a Reply

Your email address will not be published.

Comment

Name

Email

Url