حارسات التراث
فنتينا شولي
"لو تدري كيف كنا نجيب مي في الخمسينيات؟ بقينا نحمل المي على روسنا ونرجع مشي" تبدأ الثمانينية فاطمة الحج يوسف حديثها بابتسامة لتروي كيف كانت هي وبقية السيدات في العيزرية شرق القدس، يذهبن لجلب الماء من بئر يسمى أبو ديس (مقابل مشفى المقاصد حالياً)، ويدفعن قرشاً واحداً مقابل أربع ركوات (تنكة ماء)، وفي كل مرة يذهبن لملء الماء، عبر طريق مليء بأشجار المشمش والبرقوق والعنب، ينشب شجار بين السيدات، فكل واحدة تريد أن تكون السباقةفي تعبئة ركوتها بسبب شح المياه، وأكثر عبارة كانت تسمعها، "هذا دلوي، وهذا دلوك"، وهنا تضحك فاطمة وتخبر الجالسين كيف سقطت قريبة لها داخل البئر أثناء شجار على الماء، فليست كل الآبار كان فيها مياه تكفي الجميع، وفي بعض الأحيان تضطر النساء للنوم قرب البئر أو نبع الماء، حتى لا يسبقهن أحد.
ملء المياه كان بداية يوم النساء في العيزرية، وبعدها يتفرغن لمهام المنزل وتجهيز العجين والخبز في الطابون، ففاطمة كانت تجلب المياه، وتعتني بأطفالها، وتخيط وتطرّز ملابسها الخاصة، وعند المساء تعد عجينة الخبز، وبعد أذان الفجر تحملها على رأسها وتذهب بها إلى طابون الحي، فكل حي تقريباً في العيزرية كان له طابون خاص أو أكثر، وكل سيدة لها وقت معين لإعداد الخبز، مقابل 25-35 قرشاً تقريباً في الشهر تدفع لمالك الطابون، في حين أن مهام الرجال تراوحت ما بين الزراعة والبناء آنذاك.
فاطمة خسرت فرصة التعليم مرتين ولم تتوقف
لم تحظ فاطمة بفرصة الذهاب للمدرسة والتعلم، أسوة برفيقاتها من ذات العمر، وذلك لعدم وجود مدارس للفتيات في منطقتهن، وحين بنيت أول مدرسة كانت هي قد تجاوزت السن الذي يسمح لها بالالتحاق بالتعليم، وفي محاولة لتعويض ما فاتها، بدأ والدها الشيخ يوسف بتعليمها القرآن والقراءة، فهو كان معلماً للفتيات في الكتّاب في مسجد العزير، والشيخ رجا معلماً للفتيان في ساحة البلدة (مكان المجلس القروي حالياً)، ولكنها بعد أن أتمت حفظ الجزء الثاني من القرآن ،خسرت فرصة التعليم مجدداً حين سقطت إحدى الفتيات من غرفة المسجد التي كان يعمل بها والدها، ما دفع الحج يوسف للتوقف عن التعليم. ورغم ذلك لم تيأس فاطمة إذ أوضحت أنها تابعت لوحدها تعلم القراءة، وباتت وهي في عمر الخامسة والثمانين تقرأ القرآن كاملاً مرة كل شهر تقريباً.
أمضت فاطمة طفولتها مع رفيقاتها في الحي ما بين المناطق القديمة، التي كانت تزرع بالقمح والشعير، خاصة أرض القناطر المبنية منذ العهد الصليبي كأبراج دفاعية فوق خزانات مياه، ولأنها كانت منطقة مهجورة مليئة بالبيوت القديمة غير المستخدمة أسماها أهل البلدة: "الخاربات". وهذه المنطقة أيضاً مليئة بالأبنية التي تعود للتراثين الإسلامي والمسيحي.
مقام العزير يضاء إيفاءً بالنذور
"الي بدها تجيب ولد تروح عالعزير، وتقول إن الله أعطاني ولد لأضوي العيزر" تستذكر فاطمة زيارات أهالي منطقتها لمقام العزير (رجل صالح)، الموجود في البلدة القديمة في العيزرية، فهناك بحسب فاطمة خزانة قديمة قرب القبر مليئة بعلب الزيت الذي يتبرع الناس به لإضاءة المقام، إيفاءً بنذور قطعوها، متابعة أن والدها كان يأخذ جزءاً من هذا الزيت ويتبرع به للفقراء لكثرته، حتى أن بعض أشجار الزيتون تبرع أصحابها بمنتوجها لإضاءة مسجد العزير والمقام فيه.
ولأن والد فاطمة كان إمام المسجد، كان يحرص على الاعتناء بنظافة وجمال القبر في مسجد العزير، إذ كان يزيل الستار الأخضر والأبيض عن القبر ويغسله بيديه في كل عيد، وتشير فاطمة إلى أن عدداً من الأشخاص اعترضوا على فكرة وجود القبر، قائلين إنه صندوق فارغ ولا يحوي جثة، وقاموا بإخراجه، ولكن تمت إعادته لمكانه لأنه أحد رموز القرية.
وتستذكر فاطمة أيضاً رجلاً مسناً يحمل عكازين ويجلس على باب قبر أليعازر (إلى جانب مسجد العزير)، ويضع بقربه دلواً كبيراً (تشير بيدها إلى ضخامته) مملوءاً بالشمع، ليضيء لكل سائح مسيحي يأتي لزيارة القبر شمعة مقابل المال، خاصة في "سبت العيزر" في نيسان كل عام، ويريهم الدرج الداخلي المودي إلى قبر تحت الأرض لرجل إسمه أليعاز تقول القصة المتناقلة إن النبي عيسى عليه السلام أحياه في هذا المكان بعد وفاته، وعادة ما يحمل السياح حفنات من تراب القبر معهم عند خروجهم.
الحموي: من بيت للاجئين إلى مركز ثقافي
وإذا تابعت صعودك، تاركاً القبرين، والقناطر، تقول فاطمة إنك ستصل إلى بيت كبير قديم مرمم عرف باسم الحموي، وفيه كانت تعيش عائلة من العيزرية وتملك حدائق واسعة، وتشرف على توزيع الحليب على اللاجئين الفلسطينيين، فوكالة الغوث كانت تحضر لهم مسحوق الحليب، وهم يقومون بتذويبه وتوزيعه، وقبل مدة قصيرة فقط، تركت العائلة المنزل ليتم ترميمه وتغيير ملامحه قليلاً وتحويله لمركز ثقافي تعليمي لقرية العيزرية التي أصبحت بلدة الآن.

محتوى المدونة من مسؤولية جمعية الروزنا ولا يعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد الاوروبي