حارسات التراث
ريما أبو رحمة
"أحلا قعدة بنقعدها هان، بتلتم العيلة وبنقعد، هادا الشبك غالي علينا غالي. بنعمل الشاي وبنلتم وبنحكي عن يومنا، عن حياتنا، عن كل إشي."
قالت وداد البردويل، أم علي، مشيرة إلى شبكة الصيد الخضراء الممتدة على أرضية الغرفة، والتي وصفتها زوجة إبنها ضاحكة " هذه الشبكة أغلا عليها من أحسن طقم كنب"جرت عادة أم علي ذات ال 62 عاما، أن تستيقظ هي وزوجها، أبو علي ذا ال 60 عاما، الذي كان أيضا صياد سمك أثناء شبابه قبل تركه المهنة لأبنائه، على صلاة الفجر، ليؤدوا الصلاة ومن ثم ليجلسوا على الشباك لإصلاح ما أتلف منها بآخر رحلة صيد لأبنائهم أو لصنع أحد الشباك البسيطة التي يستطيعون صنعها بالمواد المتوفرة بقطاع غزة المحاصر، كشباك الوحش (القرش) أو الملطش. ليعود الأبناء بعد ساعات قليلة من رحلتهم الحافلة بالمخاطر، ويجدوا أمهم قد أعدت لهم الإفطار، وبراد الشاي، وأشعلت النار ليتدفؤوا بها. فتأخذ وداد ملابسهم لغسلها، وما تلف من شباكهم لإصلاحها، ليعودوا بها للبحر باليوم التالي.
تقول وداد أنها تعلمت صنع وصيانة شباك الصيد منذ طفولتها، حيث أنها تأتي من قرية الجورة الفلسطينية، التي تقع على شاطئ البحر المتوسط وتبعد 5 كم غربي الجنوب الغربي لمدينة المجدل، والتي يعتمد سكانها على صيد الأسماك كأحد أهم الأنشطة الاقتصادية. وقد كان أجدادها يخيطون شباك الصيد بأيديهم، باستخدام الماجة (عود خشبي) والمخياط. "كنت اشوف أبوي وعمتي وأمي، كانوا طول حياتهم يخيطوا، وحنا صغار كان عنا حسكة مقداف، وكنت أعوم زيي زيهم، كنت أجيب صنار بدن ونحط فيه طعم ونروح نمدوا بالبحر، نمدوا المغرب والصبح نطولوا"
تعلمت وداد الكثير عن البحر والصيد منذ طفولتها، حيث أنها حفظت أنواع الشباك، ولأي أسماك تستخدم كل نوع ومن أي خيوط تصنع، فلكل سمك حسب قولها نوعية غزل شبك، فشباك السردين تصنع من خيوط الحرير وبفتحات صغيرة، ومنها الأصغر لسمك البزرة (السردين الصغير)، ويمكن أيضا استخدام اللاطش (أو الملطش) الذي يصنع من النايلون لصيد السردين وأيضا لسمك الغزلان، في حين أن شبك الوحش (القرش) يصنع من خيوط أخمل وفتحات أكبر، ويمكن أيضا استعمال الصنار لهذا النوع من السمك واستخدام طعم (بلاميدا)، وهناك أيضا غزل المحابر الذي يصنع من الحرير، وغيره.
وتحدثت إلينا أيضا عن المواسم التي يكثر فيها استخدام هذه الشباك حيث يكثر صيد الصبيدة (المحابر) وسمك الوحش (القرش) من شهر يناير حتى أبريل. وسمك الغزال من شهر نوفمبر حتى مارس، أما سمك السردين الذي يستمر صيده على مدار العام، فتقول وداد انهم يصنعون شبك (الملطش) من خيوط النايلون لصيده، ويقومون بإضافة الفلين في الشتاء ليعوم على الماء ويقومون بتخفيفه بالصيف ليغطس بالماء (لاطش غاطس ولاطش عايم).
وتصنع شباك الصيد بأحجام مختلفة، حيث يمكن ان تصل الى 400 و500 متر للشبكة، وكلما زاد حجم الشبكة، زاد الوقت اللازم لغزلها. فتقول وداد أن شبكة الطرح يمكن أن تصنع في شهرين لصغرها، أما شبك الوحش فيحتاج من 6 شهور إلى سنة لصنعه. وتروي وداد أن أمها وعمتها اعتادتا قضاء ساعات كثيرة بصناعة هذه الشباك في طفولتها، وكانت كل أحاديثهما تدور وهما جالستان على شباك الصيد.
تعلمت وداد من أمها أيضا أكلات السمك الشعبية اللذيذة جدا، حسب وصف زوجها، فمنها الصيادية والزبدية وكفتة السمك وشوربة السمك، وعند سؤالها عن الأكلة الشعبية المفضلة، أجابت انها السردين بكل تأكيد. حيث يأكلها الغني والفقير، بكافة أشكاله، المقلي والمشوي وتصنع منه الكفتة أيضا. أما أسماك اللكس والجرع والفرفور، فيتم تصديرها للأراضي الفلسطينية المحتلة حاليا، بسبب غلاء ثمنها وعدم مقدرة أهل القطاع على شرائها.
"تراث أهالينا هادا الصيد، هما أهالينا صيادين من يوم منخلقو، وهما بالبلاد كانوا صيادين وأجو هان ضلوا صيادين. كانوا هناك الهم مراكب يسرحوا فيها ويصيدوا سمك كتير، كان الخير كتير ينزلوا البحر نلاكي المركب مليانة سمك، الحين بنزلوا البحر بجيبوش حق البنزين..."
كان الواضح من حديث وداد معاناتها هي وعائلتها منذ الإغلاق الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وداد التي عند سؤالها عن أبنائها أجابت بأن لديها 3 أبناء وبنت، ثم صمتت لتصحح نفسها، بحقيقة ربما لم تستطع تصديقها بعد، فقالت " إثنين، الثالث استشهد بالبحر"، لنعلم بعد سؤالها بأنه قد تم مطاردة إبنها زياد، ذي ال 17 عاما، أثناء ممارسته لمهنة الصيد في بحر غزة عام 2010، " لحقو الطراد، قلبت الحسكة فيه، إجت المكنة عرقبتو من ورا وقصتها".ولذلك تستمر معاناة وداد يوميا عند خروج أبنائها للصيد، حيث أن هذه مهنتهم الوحيدة التي لا مفر منها " بنقعد ندعي وبنحط أيدينا عقلوبنا بس يسرحو لولاد".
تحدثت وداد أيضا عن معاناتها وأبنائها وغيرهم من الصيادين في قطاع غزة، وعن الانتهاكات العديدة التي يتعرضون لها نتيجة الحصار من غلاء مستلزمات الصيد من شباك ومواتير وقطع غيار. ناهيك عن تعرضهم لخطر الموت، في أي لحظة، على يد قناص أو "طراد". وكيف يشكل الحصار خطرا على إبقاء هذا التراث المعنوي على قيد الحياة، حيث أنها لا تستطيع صناعة معظم أنواع الشباك في الوقت الحالي بسبب عدم السماح بدخول المواد اللازمة لقطاع غزة، ولربما تكون قد نسيت كيف تصنع بعض الأنواع التي أخذتها عن والدتها.

محتوى المدونة من مسؤولية جمعية الروزنا وملتقى شباب بلا حدود- غزة ولا يعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد الاوروبي