حارسات التراث
فانتينا شولي
الأقل جمالا تقدم القهوة أولاً للخطّاب في عابود
زمان كانت بس تيجي جاهة الخطبة من خارج عابود، كانت الناس تخلي البنت الأقل جمالا في العيلة تستقبلهم وتقدملهم القهوة، عشان يجيها النصيب أول وتتزوج، مهي الحلوة نصيبها دايما بيجي"، تضحك مريم بشارية وتتابع "مجتمعنا شرقي، والكل بدو يجوز بناته، والجاهة جاي جاي، والناس بتعمل شان لبعض (تعطي اعتباراً لبعضها)"، متابعة أن هذا الأمر كان ينطلي على الخاطبين من مناطق مجاورة، وليس على أهل البلدة في عابود غرب رام الله الذين يعرفون بعضهم، ولكن بحسب الستينية مريم فالأمر حالياً اختلف بسبب وجود مواقع التواصل الاجتماعي واختلاط الناس مع بعضها بشكل أكبر. أما بشارية فلم تتزوج بهذه الطريقة المشهورة في عابود، لكنها تزوجت بطريقة تقليدية أخرى، فالعائلة التي نشأت فيها أعطت لبناتها فرصة التعلم، إذ تقول مريم إنها انتقلت وشقيقتها إلى القدس لاستكمال تعليمهن الإعدادي في دار الطفل العربي عام 1967، لأن المدارس في ذلك الوقت أغلقت بعض صفوفها بسبب الظروف السياسية، وخلال دراستهما حصلتا على فرصة للدراسة في ألمانيا، وكانت مريم آنذاك في الصف الثالث الإعدادي، ولكن جدها رفض الأمر قائلا: "شو بدنا في ألمانيا، ابن عمتها خطبها وبدنا نزوجها"، وهكذا كان، فكبير العائلة لم تكن تكسر له كلمة أو يعصى له أمر، وجد مريم كان الآمر الناهي في العائلة، والمسؤول أيضا عن تقسيم الطعام على المائدة في بعض الأحيان، واتخاذ قرارات العائلة المصيرية.
"تزوجت مبكراً، لكني منعت أولادي من ذلك"
"كنت أحب القدس، وأحب المدرسة، بس في القرية، هاد سن الزواج كان، بس أنا ضد هذا الأمر" ترفع مريم صوتها معبرة عن رفضها لزواج الفتيات والفتيان قبل إنهاء التعليم، موضحة أن زواجها المبكر جعلها تدرك أهمية التعليم خاصة للفتاة، لذلك زوّجت جميع أبناءها وبناتها بعد الحادية والعشرين، لأن درجة النضج والوعي تختلف من عمر لآخر. لكن رغم زواجها مبكراً وانقطاعها عن التعليم، تابعت مريم تحقيق ذاتها، فهي عملت كمربية أطفال في مدرسة داخلية في رام الله خاصة لأولئك الذين يواجهون مشاكل أسرية، لمدة 20 عاماً ابتداء من عام 1986، وكانت تذهب يومياً لعملها من عابود إلى رام الله عبر الطرق الوعرة والجبال في ظل اندلاع الانتفاضة الأولى، وقلة النساء العاملات، فبحسب بشارية النساء المتعلمات كن قليلات، وغالبيتهن يعملن كمدرسات في القرية.
راهبات دير اللاتين كن ممرضات المنطقة
قبل أن تذهب مريم للدراسة في القدس، كانت طالبة في مدرسة دير اللاتين في القرية، التي كانت حتى الصف الثالث الإعدادي فقط، وعام 1967 تم اختصار المراحل التعليمية للصف السادس، ما أجبر الكثيرات على ترك تعليمهن، أما مريم فكانت محظوظة بشقيقها الذي يعمل مدرسا في القدس، وبالتالي حصلت على فرصة للدراسة هناك. لم يكن مبنى الدير الصغير مدرسة فقط، بل كان مشفى لقرية عابود والمناطق المجاورة، وعن الممرضات اللواتي كن يعملن فيه تقول مريم: "كانوا الراهبات يدقوا الدوا ويرشوه عالجرح ويحطوا شاشة فوقه، وكانت الناس تتحسن حالتها"، فالراهبات كن يقدمن الخدمات الطبية مجانا، ويعالجن الكسور ويضمدن الجروح ومشاكل العيون، نظراً لعدم وجود عيادات قريبة، وبعد القرية عن المدينة
شجرة عوض العرموش مضافة القرية
لم يكن إخفاء البنات ومشفى الراهبات القصص الوحيدة المشهورة بها قرية عابود، بل عرفت أيضاً بالتعايش الاجتماعي ما بين المسلمين والمسيحيين، فهم كانوا يتشاركون تفاصيل حياتهم اليومية والأعياد والصيام وغيرها، وأبرز مثال على ذلك كما روت لنا مريم هو شجرة عوض العرموش التي كانت بمثابة مضافة لرجال القرية ومكاناً لنقاش قضاياهم واتخاذ القرارات المهمة، إذ كان أهل القرية يحملون ما طاب لهم من خيرات أرضهم ويذهبون للجلوس تحت الشجرة التي يزيد عمرها عن 1000 عام، بعد عصر كل يوم، للتسامر والحديث والتفريغ النفسي والترفيه. وتتابع مريم ضاحكة أن النساء اتخذن من الطابون مكانهن الخاص، فرائحة الخبز والمطبق كانت تدخل كل بيت، وهذا يدفعهن للتجمع وتشارك الطعام والنوادر والمشاكل والأحاديث التي قد تطول حتى ما بعد منتصف الليل.
"أنا خوالي المسلمين"
ومن القصص الطريفة أيضاً التي تتندر بها القرية وتفتخر بها في ذات الوقت عن الإخاء والتسامح، ما حدث مع جد مريم في الحرب، حيث تقول مريم إن أبطال القصة كانوا جنوداً في الجيش التركي أثناء الحرب العالمية الأولى، وهم جدها خليل وصديقه إسماعيل اللذان ذهبا إلى اسطنبول التركية لتسع سنوات، وظن الناس أنهما ماتا نظراً لغيابهما الطويل، وبدأوا بتوزيع حصصهم من الأراضي فيما بينهم، وعادت زوجة كل واحد منهما إلى أسرتها، ولكن المفاجأة أنهما عادا ذات يوم. بعد عودة خليل بمدة قصيرة توفيت زوجته تاركة رضيعة صغيرة (والدة مريم)، ما دفع أم خليل للبحث عن مرضعة، ولكن لأن خليل مسيحي وعدد المسيحيين في القرية قليل، لم تقبل النساء إرضاع الطفلة، خوف أن تصبح أختاً لأبنائهن في الرضاعة، وبهذا لا يستطيع أن يتزوجها أحدهم لاحقاً، ما اضطر أم خليل إلى أخذ حفيدتها إلى زوجة اسماعيل التي هي الأخرى رفضت في البداية كون الطفلة مسيحية، والعائلة مسلمة، ولكن وفاءً لصداقة خليل وإسماعيل، وافقت الأسرة، ما يعني أن أولاد إسماعيل هم أشقاء هذه الرضيعة، وهذا ما تتندر به مريم دائماً، "أنا خوالي المسلمين".
في نهاية زيارتنا للقرية، تجولنا في الشوارع الرئيسية لها رغبة في التعرف على أحياء البلدة القديمة التي دارت أحداث قصص مريم فيها، ورغبة أيضاً في زيارة شجرة عوض العرموش الضخمة، علّنا نرسم صورة لرجال القرية خلال نقاشهم قضاياهم المهمة، ولكننا وجدنا أنها لم تعد كبيرة كما وصفتها مريم، بل باتت شجرة عادية على طرف الطريق في أحد الأحياء السكنية الجديدة.

محتوى المدونة من مسؤولية جمعية الروزنا ولا يعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد الاوروبي